وخطؤه كما ترى من وجهين:
الوجه الأول: أن الراجح هو القول بأن أول المخلوقات هو العرش، أي في هذا العالم المشهود -كما أسلفنا الآن-.
والوجه الثاني: أن شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ -كما في شرح حديث عمران بن حصين في مجموع الفتاوى، وكذلك في منهاج السنة في الجزء الأول- يقول: لا يوصف مخلوق بأنه الأول مطلقاً عَلَى جميع المخلوقات، فالأولية مقيدة بهذا العالم المشهود الذي سأل عنه أهل اليمن، أما قبل ذلك فلم يأت لا ما يثبته ولا ما ينفيه.
ومما سبق تقريره يتبين أن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أزلي بصفاته، خالق، ورازق، وقدير إِلَى ما لا بداية له، فآثار هذه الصفات ومفعولاتها تظهر في حوادث يرسلها تَبَارَكَ وَتَعَالَى لا علم لنا بها، ولا نستطيع أن ندركها، لكننا لا ننفيها أيضاً، لأنه ليس في الدين ولا في العقل ما ينفيها، وإنما نؤمن بأنه سبحانه {لم يكن قبله شيء}، كما في الرواية الراجحة المختارة.
ثُمَّ يشرع المُصنِّف -رحمه الله تعالى- في بيان الأدلة الدالة عَلَى صحة القول الثالث، وهذه الأوجه هي بعض ما ذكر شَيْخ الإِسْلامِ فقد ذكرها بتوسع وتفصيل أكثر، فمن أراد الاستفادة فليراجع شرح حديث عمران ضمن مجموع الفتاوى (18/210)
قَالَ المُصنِّفُ رحمه الله تعالى:
[ودليل صحة هذا القول الثاني من وجوه:
أحدها: أن قول أهل اليمن: {جئناك لنسألك عن أول هذا الأمر}، وهو إشارة إِلَى حاضر مشهود موجود، والأمر هنا بمعنى المأمور، أي: الذي كونه الله بأمره، وقد أجابهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن بدء هذا العالم الموجود، لا عن جنس المخلوقات، لأنهم لم يسألوه عنه، وقد أخبرهم عن خلق السموات والأرض حال كون عرشه عَلَى الماء، ولم يخبرهم عن خلق العرش، وهو مخلوق قبل خلق السموات والأرض. وأيضاً فإنه قَالَ: {كَانَ الله ولم يكن شيء قبله}، وقد روي {معه}، وروي {غيره}، والمجلس كَانَ واحداً، فعلم أنه قال أحد الألفاظ، والآخران رويا بالمعنى، ولفظ "القَبْل" ثبت عنه في غير هذا الحديث.
ففي صحيح مسلم عن أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه كَانَ يقول في دعائه: {اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء} الحديث.
واللفظان الآخران لم يثبت واحد منهما في موضع آخر، ولهذا كَانَ كثير من أهل الحديث إنما يرويه بلفظ "القَبْل"، كـالحميدي والبغوي وابن الأثير.
وإذا كَانَ كذلك لم يكن في هذا اللفظ تعرض لابتداء الحوادث، ولا لأول مخلوق.
وأيضاً فإنه قَالَ: {كَانَ الله ولم يكن شيء قبله} أو {معه}، أو {غيره}، {وكان عرشه عَلَى الماء وكتب في الذكر كل شيء}.
فأخبر عن هذه الثلاثة بالواو، و{خلق السموات والأرض} روي بالواو وبثم، فظهر أن مقصوده إخباره إياهم ببدء خلق السموات والأرض وما بينهما، وهي المخلوقات التي خلقت في ستة أيام، لا ابتداء خلق ما خلقه الله قبل ذلك، وذكر السموات والأرض بما يدل عَلَى خلقهما، وذكر ما قبلهما بما يدل عَلَى كونه ووجوده، ولم يتعرض لابتداء خلقه له] اهـ

الشرح:
توضيح كلام المُصنِّف في الوجه الأول: فيه أن كلمة [هذا الأمر] إشارة إِلَى حاضر مشهود موجود، والأمر بمعنى الكون، أي: أول هذا الكون المعروف المشهود، لأن النَّاس يعيشون فيه فتتطلع العقول والقلوب إِلَى نشأته، وكيف كَانَ أوله، وهذه فطرة في النفس الإِنسَانية.
فمثلاً لو أدخلت أي إنسان إِلَى قصر كبير، فسيظل يسأل لمن: هذا القصر؟ ومن الذي بناه؟ وكيف جاء؟ وهكذا جميع البشر، حتى الطفل الصغير، فهي فطرة بشرية جعلها الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- في الناس، وهذه الفطرة في الإِنسَان دائماً تبحث عن العلم ومزيد من الفقه.
فسؤال هَؤُلاءِ دلالة عَلَى كمال عقولهم ونضج تفكيرهم، وذلك لأنهم يتفكرون في خلق السموات والأرض، وقد أمر الله بالتفكر فيهما، فلم يخوضوا بأنفسهم كما خاض الفلاسفة من اليونان والهنود وغيرهم، بل ذهبوا إِلَى مصدر العلم اليقين -رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليتفقهوا في الدين، فسألوه هذا السؤال، فأجابهم بما هو مذكور في الحديث.

الوجه الثاني: الروايات، فقد سبق أن ذكرنا أن هذه الروايات الثلاث التي قال شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ: إنها في البُخَارِيّ وغيره، وقال ابن حجر: وفي رواية غير البُخَارِيّ: {معه}، وأشار إليها شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللَّهُ في أول كلامه عن هذا الحديث، فإنهما كلاهما اتفقا عَلَى أن هذا الحديث قاله النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في موقف واحد، وعلى ذلك فلا يحتمل أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال هذه الروايات الثلاث، وإنما قال واحدة.
فرجح شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ رواية {قبله} بإطلاق؛ لأنها موافقة للحديث الآخر الصحيح، وموافقة للآيات الأخرى المعلومة، ولأنها رواية الحميدي، ورواها البغوي وابن الأثير أيضاً، وذكر المحقق أنها رواية الإمام أَحْمَد، فهي أوثق رواية وأكثر، وأرجح من حيث المعنى، وأما الحافظ ابن حجر فكأنه يرجح رواية {غيره} لأنها أصرح في نفي العدم، وهو صادق في أنها أصرح في نفي العدم المحض، وإثبات أنه لم يكن شيء موجود مطلقاً غير الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، لكن الحافظ ابن حجر لم يتعمق في هذه المسألة، فلم يبين رأياً قاطعاً، وإنما مال إِلَى ذلك، والصواب ما رجحه شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللَّهُ.
الوجه الثالث: لو نظرنا إِلَى نفس الألفاظ: {كَانَ الله ولم يكن شيء قبله} أو {غيره}، {وكان عرشه عَلَى الماء، وكتب في الذكر كل شيء} -هذه معطوفة كلها بالواو- {ثُمَّ خلق السموات والأرض}، وفي رواية: {وخلق السموات والأرض}، وسواء كانت بالواو أو بثم، فإن هذا المسئول عنه قبله أشياء، فقبل خلق السموات والأرض كتابة الذكر، وقبلها العرش والماء، فأجابهم بما فيه زيادة بيان منه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فبين لهم الحقيقة التي لا يمكن أن تصل إليها مجرد العقول البشرية بإطلاق، في نشأة هذا الكون.
ومن هنا كَانَ في المسألة إثبات لعظمة الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- بمعرفة عظمة مخلوقاته ولاسيما العرش، وفيها إثبات للقدر، وأنه سابق لخلق السموات والأرض، فوجب عَلَى الإِنسَان أن يؤمن بالقدر خيره وشره من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ لأن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- كتب هذا قبل أن يخلق السموات والأرض، فمن ذا الذي يعترض عَلَى أقدار الله أو يأباها؟!
ثُمَّ فيها بيان بدء خلق السموات والأرض وإنشائها إنشاءً، وأنه ليس هناك مجال للخوض البشري في ماهيتها، كما خاض فيه الفلاسفة وأمثالهم، فَقَالُوا: هل وجد من مادة؟ أو من غير مادة؟ بل هذه الأمور لم يسأل عنها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم يجب عليها، هذا ملخص الثلاثة الأوجه الأولى.
قَالَ المُصنِّفُ رحمه الله تعالى:
[وأيضاً فإنه إذا كَانَ الحديث قد ورد بهذا وهذا، فلا يجزم بأحدهما إلا بدليل، فإذا رجح أحدهما، فمن جزم بأن الرَّسُول أراد المعنى الآخر، فهو مخطئ قطعاً، ولم يأت في الكتاب ولا في السنة ما يدل عَلَى المعنى الآخر، فلا يجوز إثباته بما يظن أنه معنى الحديث، ولم يرد (كَانَ الله ولا شيء معه) مجرداً، وإنما ورد عَلَى السياق المذكور، فلا يظن أن معناه: الإخبار بتعطيل الرب تَعَالَى دائماً عن الفعل حتى خلق السموات والأرض. وأيضاً، فقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {كان الله ولم يكن شيء قبله}، أو {معه} أو {غيره}، {وكان عرشه عَلَى الماء}، لا يصح أن يكون المعنى أنه تَعَالَى موجود وحده لا مخلوق معه أصلاً، لأن قوله: {وكان عرشه عَلَى الماء}، يرد ذلك، فإن هذه الجملة وهي: {وكان عرشه عَلَى الماء} إما حالية، أو معطوفة، وعلى كلا التقديرين فهو مخلوق موجود في ذلك الوقت، فعلم أن المراد ولم يكن شيء من هذا العالم المشهود] اهـ.
الشرح:
ومن الوجوه أن يقَالَ: لو افترض أن الحديث ورد بهذا وهذا، فإن الحديث يحتمل القولين، ولا يجوز أن يجزم بأحدهما إلا بدليل قاطع خارق.
والجزم الذي يقوله أُولَئِكَ أن الحوادث لها أول، وأن هذا الأول المذكور في هذا الحديث مسبوق بعدم محض، لم يخلق الله تَعَالَى فيه أي شيء، يقتضي تعطيل الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- عن الخلق في ذلك الزمن، الذي لم يرد الحديث فيه بنفي ولا إثبات، وإنما هو محتمل للأمرين، وترجيح ما فيه تعطيل لصفات الله وما لم يرد به الدليل ترجيحٌ بلا مرجح، فلو أن المسألة مستوية الطرفين لكان الأولى ترجيح ما يدل عَلَى إثبات صفات الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ لكونه -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- موصوفاً بالخلق وبالحكمة.
والله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- يخلق ما يشاء، ويتكلم متى شاء بما شاء، وإذا قلنا: إنه يتكلم، فمعنى ذلك أن له مخلوقات، كما سبق بيانه، وكما هو في قوله تعالى: ((أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْر)) [الأعراف:54]، فإن كلمات الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- الكونية التي ينشئ بها المخلوقات لا حصر لها، كما سبق أن بينا ذلك، لأن الله تَعَالَى يقول للشيء: كن فيكون، فلا يُقَالَ: إن الكلام كَانَ ممتنعاً أو مستحيلاً عليه، ثُمَّ ابتدأ الكلام عندما أراد أن يخلق السموات والأرض فقط، فانتقل الحال من الامتناع الذاتي إِلَى الإمكان الذاتي -كما يقولون- بلا دليل ولا مرجح، بل لو لم يكن في الأمر إلا أن يتوقف الإِنسَان في هذه المسألة ولا يرجح شيئاً لكفى.
أما الجزم بالوجه المرجوح المتضمن لتعطيل صفات الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فإن هذا خطأ.
ولو نظرنا للدليل من وجوه أخرى، وقد ذكرها المُصنِّف عن شَيْخ الإِسْلامِ هنا، عَلَى قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {كَانَ الله ولا شيء قبله، وكان عرشه عَلَى الماء}، علمنا أنه لا يصح أن يفهم أن المقصود بهذا الحديث: أن الله تَعَالَى كَانَ موجوداً ولم يكن شيء غيره موجوداً إلا العدم المحض، لأن قوله: {وكان عرشه عَلَى الماء}، يحتمل أن يكون مجرد عطف جملة عَلَى جملة، أو أن الواو حالية، فيكون المعنى حال كون عرشه عَلَى الماء كَانَ ولم يكن قبله شيء، وهذا لا يقتضي أنه كَانَ هنالك مخلوق قبل الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-.
والذي عليه أهل السنة الجماعة أنه لم يتقدم شيء عَلَى وجود الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ لأن وجوده تَبَارَكَ وَتَعَالَى لا أول له، كما هو ثابت لدى جميع الفطر والعقول، فغاية ما في الحديث إثبات أنه لم يكن هناك عدم متقدم عَلَى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، سواء كانت الواو عاطفة أو كانت حالية، هذا ما اقتصر عليه المُصنِّف -رحمه الله تعالى- مما ذكره شَيْخ الإِسْلامِ من الأوجه، وقد أطال فيها شَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله تعالى، ومن أراد الاستفادة أكثر فليراجعها هناك، وفيما ذكرت الكفاية -إن شاء الله-.
قال الطّّحاويّ رحمه الله تعالى:
[له معنى الربوبية ولا مربوب، ومعنى الخالق ولا مخلوق].
قَالَ المُصنِّفُ رحمه الله تعالى:
[يعني: أن الله تَعَالَى موصوف بأنه "الرب" قبل أن يوجد مربوب، وموصوف بأنه "خالق" قبل أن يوجد مخلوق؛ قال بعض المشايخ الشارحين: وإنما قَالَ: (له معنى الربوبية ومعنى الخالق) دون الخالقية، لأن الخالق هو المخرج للشيء من العدم إِلَى الوجود لا غير، والرب يقتضي معاني كثيرة، هي: الملك والحفظ والتدبير والتربية وهي: تبليغ الشيء كماله بالتدريج، فلا جرم أتى بلفظ يشمل هذه المعاني، وهو الربوبية. انتهى. وفيه نظر لأن الخلق يكون بمعنى التقدير
أيضاً] اهـ.

الشرح:
في هذه الفقرة الخامسة عشر من كلام الإمام الطّّحاويّ -رحمه الله تعالى-: الحديث عن الصفات، وفي معنى هذه العبارة أراد بعض الشارحين المتأخرين التعمق، فقَالَ: إنما قال هنا: الخالق، وهنا: الربوبية، ولم يقل: الخالقية؛ لأن الرب له عدة معاني: الملك، والحفظ، والتدبير، فكلمة الرب لم يستخدمها بمفردها، فإنها تطلق عَلَى المالك، فعبر بالربوبية.
وأما الخالق فجاء به مفرداً لأن الخالق هو المخرج للشيء من العدم، ورد المُصنِّف في شرح العبارة الآنف الذكر بكلمة لطيفة ولكنها كافية وذلك أن الخلق أيضاً له معاني منها: التقدير، كما أنه يطلق على: الإنشاء، والابتداء من العدم، فعلى هذا ليس في كلام الإمام الطّّحاويّ رَحِمَهُ اللَّهُ ما يدل عَلَى أنه تعمد أن يفرق بين هذا اللفظ وذاك، وإنما هو كلام خرج عَلَى سجيته لم يقصد به معنى آخر.
وبغض النظر عن هذا التفريق اللفظي، فمعنى هذه الفقرة الخامسة عشر، لا يخرج عن معنى الفقرة الرابعة عشر، والثالثة عشر في الجملة.